سميح شقير... منفى وشعريّة تغنّي | حوار

سميح شقير | عدسة أحمد داري

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في إحدى الحافلات الّتي صعدت بنا نحو جبال الجليل، علا صوته من مكبّر الصوت المثبّت فوق رأسي، وكانت تلك المرّة الأولى الّتي أسمعه فيها. حافلة حملت عشرات الصبايا والشباب الجامعيّين، الّذين جمعهم حراكهم السياسيّ، وأملهم في التغيير، ودمهم الّذي يغلي مثل بركان.

منذ أن غنّى سميح شقير في تلك الحافلة "إن عشت فعش حرًّا أو مُتْ كالأشجار وقوفًا"؛ أصبحت أغنيته وحنجرته بوصلة تشير إلى أمل ما، إلى ثورة ما، ولو مكتومة الصوت، إلى العودة وإلى وطن جميل في الخيال. رافقتني، ورافقت رفاقي الفلسطينيّين والجولانيّين، أغنية سميح من حيث هي أغنية فرديّة وجمعيّة في آن، قد تُلهب الجمع وقد تخزّ قلب الفرد على حدّ سواء. ومن حيث هي أغنية وجوديّة وسياسيّة في آن؛ ففي الوقت الّذي كان بعض الأغاني أهازيج للرفض والاحتجاج والمقاومة، كانت أخرى نديمة الليل والسهر.

صحيح أنّنا عرفنا سميح شقير في مبكر شبابنا السياسيّ، لكنّه كان "صوت الثورة" عند آخرين سبقونا في الزمن والتجربة والجغرافيا؛ فعلى امتداد عقود، لم تتوانَ تجربته الموسيقيّة بملازمة الحدث والغضب والظلم والقصيدة والحجر وقضبان السجن، فغنّى للعمّال والمفجوعين والشهداء والثائرين والمعتقلين، وكان الصوت الأقرب إليهم، والأكثر شبهًا بفلسطينيّتهم إن كانوا فلسطينيّين، وبسودانيّتهم إن كانوا سودانيّين، وبسوريّتهم إن كانوا سوريّين. ذلك على الرغم من أنّ سميح شقير لا يؤمن بالحدود، ولا يؤمن بالهويّات الضيّقة، لكن دون أن يقصد كان جزءًا من هويّات وطنيّة كثيرة، كوّنها الّذين رفعوا صولجان الأمل، وربّما كُسر في أيديهم، لكنّهم يعاودون ترميمه، حتّى لو كان ترميمًا مجازيًّا من خلال الأغنية والشعر والفنّ.

أردت لحوارنا معه في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة أن يكون حوارًا مطوّلًا؛ لِما في تجربة سميح من شموليّة وثراء يجعلانها عصيّة على الاختزال. وُلد سميح في إحدى قرى الجولان المهجّرة، ونشأ في السويداء، ثمّ قبل عشر سنوات، أُرغم على الانتقال إلى منفاه الطويل في باريس، بعد تضييقات خانقة لاقاها من النظام السوريّ. لكنّه، في وطنه أو منفاه، ظلّ بنفس الأمل والحلم، ودون أن يكسر القنوط شوكة من شوكاته، ظلّ يغنّي؛ فقد قدّم حتّى الآن أكثر من 12 ألبومًا غنائيًّا، وعشرات الأغاني المنفردة، ووضع ألحانًا لعدد من المسلسلات والمسرحيّات، أبرزها مسرحيّة "خارج السرب" لمحمّد الماغوط، وقد لحّن أيضًا لعدد من الشعراء هو واحد منهم؛ فهو يكتب الشعر، إضافة إلى الأغنية، ويقدّمه منشورًا في كتب. وفي كلّ ما يكتب ويغنّي، يترك سميح في صدور مستمعيه أصواتًا تصبح لهم. هو الّذي قال: "لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم"؛ وحقًّا، يشعر مَنْ نشأ على أغانيه بأنّ ثمّة حناجر كثيرة، ستصدح في صدره إلى الأبد، وقد يشعر بحنجرته هو، كأنّها هي الّتي غنّت كلّ ذلك، كأنّها هي الّتي قالت.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

فُسْحَة: ماذا يشغلك في هذه الفترة؟ أوّلًا على المستوى الموسيقيّ والفنّيّ، وثانيًا على مستوى ما يحدث في العالم من حولنا، ما الّذي يشعل اهتمامك وتفكيرك؟

سميح: فنّيًّا، أحاول تعميق مسار تجربتي الغنائيّة، من خلال إنتاج أعمال جديدة تتوزّع بين الفصحى والعامّيّة لغةً، وبين السياسيّ والإنسانيّ موضوعًا، وبين الجملة البسيطة العميقة وتلك الّتي تحاول اكتشاف مساحات جماليّة غير اعتياديّة. لكنّي أعاني عمومًا من عدم تمكّني من تسجيل عشرات الأغاني المنجزة. تشغلني، أيضًا، الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة وأسئلة حول مستقبل الإنسانيّة الغائم؛ بسبب توفّر كلّ أسباب الدمار، سواء للبيئة أو للبنى الاجتماعيّة، والقابليّة الكبيرة للنزاعات والحروب والانهيارات الاقتصاديّة جرّاء تغوّل مراكز النفوذ الاقتصاديّة، إضافة إلى وجود مجموعة من القادة المهووسين يتحكّمون بمسار الأحداث. أفكّر أيضًا في اتّساع رقعة الحياة الافتراضيّة، على حساب العلاقات المباشرة والطبيعيّة بين البشر. أفكّر في هذه التوأمة الحاصلة بين التواصل الافتراضيّ المُتاح والعزلة، الّتي أصبحت سمة غالبة في المجتمعات وواقعها الراهن.

 

فُسْحَة: إذن، بمَ أو بمَن ترتبط علاقاتك الطبيعيّة، الّتي تُصرّ على وجودها الفيزيائيّ؟ وما الأشياء الغائبة أو المعزولة الّتي تفتقدها في هذا الوجود؟

سميح: أوّل الغائبين هو الفرح؛ إذ يستحيل وجود الفرح من الأعماق وأنت ابن مأساة مستمرّة ومتوالدة، وضحاياها هم إخوتك وأصدقاؤك وأبناء بلدك. الغائب الثاني هو المحيط الطبيعيّ؛ حيث تتحدّثين بلغتك ويحيط بك مَنْ تحبّين. وثالثهما افتقار القدرة على ردم هذا الفراغ فنّيًّا، وعبر إنجاز أعمال جديدة، على الرغم من أنّ الكثير منها قد أُلِّف، لكنّها في انتظار الظرف الّذي يُتيح تسجيلها. أمّا في ما يخصّ علاقاتي الطبيعيّة فهي جيّدة، ولا سيّما أنّي بعيد جدًّا عن العزلة؛ فالمقهى ولمّة الأصدقاء وضوضاء أصواتهم ومرحهم، تُعَدّ لديّ أجمل الأوقات.

 

فُسْحَة: لا يمكن الحديث عن سميح الموسيقيّ وتحييد سميح الشاعر؛ فعلاوة على كتابة الأغنية، أنت تكتب الشعر وتنشره في مجموعات مستقلّة. هل ترى فرقًا جوهريًّا بين كتابة الأغنية وكتابة القصيدة؟ وكيف تذهب إلى كلٍّ منهما؟ ومتى؟

سميح: في الحقيقة، أنا لا أعرف متى أذهب إلى أيّ منهما؛ إذ يقودني حدسي في ذلك. عمومًا ليس ثمّة فروق جوهريّة بين كتابة الأغنية وكتابة القصيدة؛ لأنّ النصّ المكتوب للغناء حالة شعريّة أيضًا. إلّا أنّ الاسترسال الشعريّ وفلسفة الفكرة تناسبان في القصيدة الفصحى بصورة أكبر، في ما نذهب في النصّ المكتوب للغناء باحثين عن حميميّة ما. ويتطلّب النصّ، من أجل أن يُغنّى، أن يكون قصيرًا نسبيًّا وكثيفًا، وغير قابل لفقدان الربط بين المعاني؛ بسبب تمدّد جسد النصّ بتأثير اللمسة الموسيقيّة.

 

فُسْحَة: سواء في القصيدة أو في الأغنية، يطغى عندك الموت والحرب والخراب؛ هل تحاول أن تكتب أو تغنّي خارج هذا العالم؟ هل تقاومه؟ أم أنّه أصبح جزءًا عضويًّا من وجودك؟

سميح: عندما نرغب في أن تكون الأغاني شاهدًا على عصر ما، فلا بدّ من غوصها في تفاصيل الحروب والمجازر وقضبان السجون وصرخات الحرّيّة؛ وبذلك تتلوّن الأغنية بألوان الواقع الدامي. ونظرًا إلى أنّ الأغنيات السائدة تتجنّب هذه المقاربة، يصبح من الطبيعيّ أن تلاقي هذه الأغنية اهتمامًا خاصًّا ممّن يعايشون قسوة هذا الواقع، وتصبح أثيرة لديهم. لكن في نفس الوقت، لا تلاقي الأغنيات ذات المنحى الإنسانيّ في التعبير ذات الاهتمام أو الشهرة، على الرغم من أنّها تستحقّ ذلك في رأيي؛ ففي حين أنّه ثمّة أغانٍ معروفة للجميع، مثل "رمّانة" و"بيروت خيمتنا" و"رجع الخيّ" و"لو يوم تنادينا" وأخرى غيرها، تحظى أغانٍ أخرى باهتمام أقلّ مثل "ولا يوم جيتني وبإيدك ورد" أو "مشي النهر" أو "نظروا عاليًا في السماء"، مع العلم بأنّ هذه الأغنيات تشكّل معادلًا وجوديًّا؛ فنحن على الرغم من كلّ الأهوال الّتي نحياها، نؤكّد استمرار الحياة داخلنا وتحدّينا لهذا الواقع، من خلال إصرارنا على الحبّ والصداقة والجمال.

 

فُسْحَة: ألا يجعلك هذا أسير انحياز الجمهور واهتمامه؟ إلى أيّ مدًى تشعر بحرّيّة انتقاء خياراتك الفنّيّة مقابل سطوة المستمع؟

سميح: في الحقيقة، أعتبر نفسي مشاكسًا في علاقتي بجمهور أغنيتي؛ لأنّي، وإن كنت أتجاوب مع بعض رغباته، غالبًا أفاجئه في خياراتي على المسرح، إلى درجة أنّني كثيرًا ما قدّمت عروضًا كاملة، غنّيت فيها أغاني يسمعها الجمهور لأوّل مرّة، وهذا ما لا يحبّذه عادة؛ إذ يعبّر الجمهور عن شوقه إلى أغانٍ يحبّها ويعرفها، فيفضّلها على الأغاني الجديدة.

 

فُسْحَة: شكّلَت أغانٍ كثيرة في مسيرتك علامات صوتيّة في أحداث سياسيّة عدّة، آخرها ربّما أغنية "يا حيف" بعد انطلاق الثورة السوريّة؛ كيف ترى أنت هذه الأغاني؟ وهل تصحب كتابتها والعمل عليها نوايا أو أمانيَ في أن تُحْدِث شيئًا ما؟

سميح: ربّما يكون من السمات المميّزة لتجربتي الغنائيّة، هذا الحضور في الحدث الساخن ومقاربته فنّيًّا. لذلك؛ فلم يكن إطلاق أغنية "يا حيف" بداية الثورة السوريّة، إلّا استمرارًا لحالة الحضور في الفضاء السياسيّ والشأن العامّ؛ فكما كانت أغنية "الحصار" عن حصار بيروت مواكبة للحدث، وكانت كذلك أغنية المظاهرات الّتي سبقت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، كذلك أغنية "بعدك عايش ببالنا" عن الوضع السودانيّ، وأغنية "شلّالات الدم" عن اجتياح جنين، الّتي كان الاجتياح لا يزال جاريًا فيها، حين قدّمتها على مسرح "مهرجان جرش" والأمثلة كثيرة جدًّا. إنّ مواكبة الأحداث كانت مزيّة أعتزّ بها، وهي نادرة الحدوث في عالم الأغنية، ولا شكّ في أنّ ما ساعدني على هذه الاستجابة السريعة للحدث، أنّني أكتب أغنياتي وألحّنها وأُغنّيها؛ فلم يكن يلزمني الكثير من الوقت لإنجاز أغنية إذا تأثّرت بحدث ما. أمّا الأماني فنعم، كنت آمل دائمًا أن أعزّز بأغانيّ روح التغيير، ورفض كلّ أشكال القهر السياسيّ من الأنظمة الحاكمة، وإعطاء سجناء الرأي والموقف طاقة روحيّة عبر الأغنية، تعزّز صمودهم في المعتقلات.

 

فُسْحَة: صحيح أنّي والكثير من الناس تأثّرنا بأغانيك الوطنيّة الصارخة، مثل "رمّانة" و"حناجركم"، لكنّي دائمًا كنت أنحاز بشكل خاصّ إلى تلك العاطفيّة أو السياسيّة الهادئة، أذكر منها "ولا يوم" أو "عشبة في حطام المراكب" أو "غرفة صغيرة"؛ كيف تنظر إلى تلك وإلى هذه؟ كيف تختلف عندك كلّ مجموعة، إن صحّ التعبير، عن الأخرى؟

سميح: أرى أنّ على الأغنية الّتي نريد لها أن تكون "أغنية للحياة"، أن تتضمّن التعبير عن مساحات واسعة من مشاعرنا وانشغالاتنا وأحلامنا. لذلك، هي أوسع من التصنيفات الّتي تحاول أن تحصرنا في خانة ضيّقة، كتعبير الأغنية السياسيّة أو الملتزمة أو إلى ما هنالك من تسميات. نعم، أنا أسعى نحو "أغنية الحياة" الثريّة بمضامينها، المتعدّدة الجهات بعواطفها، تلك الّتي تشبهنا إلى حدّ قصارى الجمال أو الفجيعة.

 

فُسْحَة: حتّى في غنائك عن سوريا أو أيّ منطقة عربيّة أخرى، ارتبطت عند جيل من الفلسطينيّين بفلسطين. كنّا نسمعك كأنّك تغنّي عنّا ولنا. أنت على المستوى الشخصيّ أيضًا كنت رفيقًا مقرّبًا إلى الكثير من الفلسطينيّين خارج فلسطين. صف لنا هذه العلاقة.

سميح: هذا ليس مستغربًا لأنّي أشعر بأنّي فلسطينيّ بقدر ما أشعر بأنّي سوريّ. في الأساس أنا لا أعترف بسايكس بيكو، ولا بالحدود الّتي مزّقت بلاد الشام. ما زلت أراها في وجداني كيانًا واحدًا. لذا؛ فالهمّ الفلسطينيّ جزء جوهريّ منّي. أسعدني مثلًا أن أجد أنّ مواقع إلكترونيّة عدّة، تُعرّف بي على أنّني مغنٍّ فلسطينيّ. منذ زمن بعيد، نشأت صداقتي بشخصيّات وقوًى يساريّة فلسطينيّة؛ كوني يساريّ الفكر، ومنسجمًا مع كلّ مَنْ يطرح مشروع العدالة الاجتماعيّة في فكره؛ فضمّنتُ الهمّ الفلسطينيّ في العديد من أغنياتي، وأسهمت في تأسيس "فرقة الأرض الفلسطينيّة" في مخيّم اليرموك في دمشق، وقد لحّنت لهذه الفرقة العديد من الأغنيات، وتأتي الأخبار من داخل فلسطين، لتؤكّد دائمًا حرارة هذه العلاقة مع أغنيتي وحضورها الدائم هناك؛ وهذا يعني لي الكثير.

 

فُسْحَة: كذلك جاورت أعمالك أعمالًا شعريّة لفلسطينيّين، مثل محمود درويش وغسّان زقطان. صف لنا هذه التجارب في تلحين القصيدة الفلسطينيّة، وماذا وجدت فيها؟

سميح: لا يمكننا القول بأنّ ثمّة قصيدة فلسطينيّة، بل ثمّة شعراء فلسطينيّون؛ وذلك لأنّ معظم الشعراء العرب كتبوا قصائد لفلسطين، وببنية شعريّة لا تختلف عن تلك الّتي كتب فيها الشعراء الفلسطينيّون. لكن في رأيي برزت، من بين الشعراء العرب المعاصرين، قامات شعريّة فلسطينيّة عدّة، يتقدّمها محمود درويش الّذي أصبح شاعرًا عالميًّا نُقِلَ شعره إلى عشرات اللغات، وغسّان زقطان الّذي يسير بخطًى واثقة إلى العالميّة، وكان لي شرف تلحين العديد من النصوص لهما منذ وقت طويل. أمّا عن خصوصيّة هذه المقاربة، فعن درويش أستطيع القول إنّي عاشق لنصوصه على اختلافها؛ الكفاحيّة أو الإنسانيّة والفلسفيّة. كنت بدأت تجربتي في تلحين قصائده بقصيدتين عظيمتين هما "مديح الظلّ العالي" و"بيروت خيمتنا"، وقد شكّل ذلك بالنسبة إليّ تحدّيًا كبيرًا، إلّا أنّ صدى الأغنيتين الرائع عند الجمهور أعطاني الكثير من الشغف لمتابعة تلحين المزيد من قصائده. أمّا تعارفنا الشخصيّ فقد تأخّر كثيرًا، وأسعدني إعجابه بما لحّنت. ثمّ إنّ الشاعر غسّان زقطان، جمعتني به صداقة وذكريات في الفترة الّتي عاش فيها في دمشق، وقد كنت متيقّنًا منذ ذلك الوقت، من أنّ الكثيرين لمّا يعرفوا بَعْدُ قيمة ما يكتبه غسّان. لقد كان صديقًا مبهرًا، دافئًا وعميقًا في قصيدته المتفرّدة؛ فكان من الطبيعيّ أن ألحّن له، والبداية كانت مع قصيدة "عندما تذهبين ترقّ الأغاني" ثمّ "صلّي لنا يا أمّ". ومنذ فترة قصيرة، أنجزت تلحين مجموعة كاملة من قصائد غسّان، لتقديمها عرضًا متكاملًا ذا طابع خاصّ. يلزمني بعض الوقت من أجل التحضير لإنجاز هذا المشروع على المسرح. ما لمّا أقله بَعْدُ لصديقي غسّان هو أنّي أفكّر في أن يشاركني هذا العرض؛ يقرأ بنفسه بعض القصائد. أنا متحمّس بالفعل لإنجازه.

 

فُسْحَة: في الوقت الّذي فقد الجولان المحتلّ صوته في الوطن العربيّ، شكّلتَ أنت جزءًا من هذا الصوت؛ كيف تنظر إلى ذلك؟ وكيف تصف لنا علاقتك بالجولان، شخصيًّا وموسيقيًّا؟

سميح: العلاقة بالجولان استثنائيّة بكلّ معنى الكلمة. قدري أنّني وُلدت أساسًا على تراب الجولان، في قرية لم تعد موجودة، اسمها "واسط". وُلدت في أثناء أداء والدي للخدمة العسكريّة في تلك المنطقة، وكانت لا تزال غير محتلّة. أمّا والداي فهُما من قرية "القريا"، وهي قرية سلطان الأطرش قائد الثورة السوريّة الكبرى. مرّت السنون لأنتبه في ما بعد إلى وجود تصوّر، حتّى لدى طلّاب جامعيّين، بأنّ الجولان قد أُنْجِز تحريره؛ وذلك لأنّ إعلام النظام آنذاك، ومنذ اتّفاق فصل القوّات، لم يعد يأتي إلّا على صورة رفع العلم السوريّ في القنيطرة؛ فما كان منّي إلّا أن ألّفت أغنية "يا الجولان ويلّي ما تهون علينا"، فذكرت فيها أسماء القرى الّتي لا تزال تحت الاحتلال، وأكّدت أنّنا لن نتخلّى عنها، فحدث ما يشبه الصدمة عند كثيرين، ثمّ توالت الأغنيات الّتي خصّصتها للجولان، فغنّيت "يا زهر الرمّان" و"اسمك محتلّي" و"العصفور" والعديد من الأغنيات الأخرى. وغنّيت مباشرةً على الحدود مقابل مجدل شمس في معظم أعياد الجلاء. وفي ما بعد، وأثناء دراستي الموسيقيّة في أوكرانيا، تصادقت مع عدد كبير من أبناء الجولان الدارسين هناك؛ وهو الأمر الّذي زوّدني بالكثير من التفاصيل، وجعلني ملمًّا بواقع الجولان والأهل هناك إلى حدود بعيدة. وفي تلك الأثناء، كانت أغنياتي تجد صداها بين أبناء الجولان، حتّى أصبحت حاضرة في الشارع الجولانيّ بشكل دائم، وتُغنّى في كلّ مناسبة. أعتزّ بذلك كثيرًا. وللحقيقة؛ فإنّ نضال الجولانيّين من أجل الحفاظ على هويّتهم السوريّة وهُم تحت الاحتلال، قد فاق التوقّعات، واستطاعوا بإضرابهم الكبير أن يُحدثوا تحوّلًا في التعامل معهم، ونالوا احترام العالم؛ لأنّهم تجاوزوا حجمهم العدديّ بتحدّيهم للاحتلال.

 

فُسْحَة: هل تعتقد أنّ الأغنية الثوريّة ما زالت حيّة؟ هل لديها بيئة بإمكانها أن تتنفّس فيها؟ أما زالت قادرة في رأيك على أن تكون صوت ثورة ما؟ أو ربّما فقدت شيئًا من هذه القدرة؟

سميح: سؤالك يحيلني إلى إشكاليّة راهنة في مفهوم الثورة بذاته، الّذي ينبغي أن نفكّر فيه قبل أن نتحدّث عن الأغنية الثوريّة؛ فنحن الآن نعيش أقصى درجات تشويه صورة الثورات، الّتي بدأت سلميّة رائعة، ورفعت مطالب محقّة في مواجهة الاستبداد، ثمّ قفزت فوقها الثورة المضادّة ذات الأجندات الدينيّة، وذلك بمساعدة مستترة من الأنظمة ذاتها، من أجل أن تضع الحراك كلّه في خانة الاٍرهاب، وهكذا تبرّئ نفسها من تهمة مواجهة طموحات شعبها بالحديد والنار. إذن، نحن في اللحظة الأصعب في توصيف الفعل الثوريّ بعد كلّ ما جرى، ويزيد هذا المشهد تعقيدًا انتشار الأغاني الجهاديّة والعنيفة. لكن في رأيي ستبقى الثورات حلًّا أخيرًا أمام كلّ انسداد تاريخيّ، وتمامًا كما الزلازل، فالثورة أيضًا ضرورة لإعادة التوازن إلى تضاريس الطبيعة. ومن ثَمّ فالأغنية ذات المحتوى السياسيّ، ستبقى حاضرة ما دام القهر والفقر وضياع الحقوق قائمًا؛ لأنّها إحدى وسائل التعبير المهمّة، الرافضة لتكريس واقع يهين إنسانيّة الإنسان.

 

فُسْحَة: أنظر إلى الأجيال الجديدة، وأراها بعيدة كلّ البعد عمّا كان بالنسبة إلى أجيال سابقة أغنيةً "سياسيّة" أو "ملتزمة"؛ هل تلاحظ ذلك؟ وكيف تراه؟

سميح: في رأيي، نحن سنلاحظ جميعًا ميلًا طبيعيًّا في الأدب والفنّ ضدّ العنف والحروب والدم، كما فعل الأدب والفنّ في العالم بعد الحروب العالميّة، وبعد أن عاش آلامها، والفنّ الملتزم سنجده على الأرجح في نفس الاتّجاه.

 

فُسْحَة: ما رأيك في الأغاني السياسيّة المعاصرة، الّتي يمكن القول إنّ معظمها اتّخذ الراب شكلًا لها مثلًا؟ هل تتابع ما ينتجه موسيقيّو الراب في الوطن العربيّ؟

سميح: الأغاني الجيّدة قليلة جدًّا في رأيي. أمّا الراب فسأكون صريحًا وأقول إنّ هذا اللون الغنائيّ لم يلق هوًى في نفسي. أقدّر أنّه إطار لتقديم نصوص رافضة للواقع بشكل عامّ، وهذا مهمّ كموضوع، لكن كشكل موسيقيّ، أعتقد أنّه محدود ومدمّر للشكل اللحنيّ (الميلودي) للأغنية، الّذي أميل إليه بقوّة.

 

فُسْحَة: يعمل الموسيقيّون اليوم على توفير مشاريعهم وأغانيهم عبر القنوات الديجيتاليّة، بعد أن أصبحت هذه القنوات شبه الوحيدة لنشر أعمالهم وتوفيرها للجمهور؛ كيف تتعامل أنت مع هذا الفضاء الافتراضيّ؟ وهل يشغلك أصلًا سؤال الجمهور؟

سميح: أعاني ككثيرين من عدم القدرة على تسجيل الأغاني الجديدة، أو توفيرها على الإنترنت، لكنّي استطعت أخيرًا توفير إمكانيّة الوصول إلى جميع أغاني ألبوماتي، الّتي صدرت من خلال صفحة خاصّة بي "Samih Choukeir" على موقع "SOUND CLOUD". أتعامل مع الفضاء الافتراضيّ باهتمام، وأتفاعل مع متابعي أغنيتي بشكل جيّد.

 

فُسْحَة: كيف تصف عملك الموسيقيّ على مستوى الإنتاج؟ عبّرت سابقًا عن موقفك من سوق الصناعة الموسيقيّة والإنتاج التجاريّ؛ إذن، كيف تحافظ على وجودك الفنّيّ؟ وعلى ضمان قدرتك على الإنتاج؟

سميح: في الحقيقة، أجد أنّ أغنيتي تسير في طرق موازية للأغنية السائدة، أو أغنية السوق إن صحّ التعبير؛ لذا فهي حالة اعتماد على الذات؛ ولذلك تتأخّر في كثير من الأحيان عمليّة الإنتاج، وتسجيل العمل الّذي ينتظر عادةً توفّر إمكانيّة ما من خلال الحفلات، لضمان هذه الاستمراريّة في العلاقة بالجمهور.

 

فُسْحَة: ماذا خسرت في منفاك في باريس؟ وماذا ربحت؟ وما الأشياء الّتي تركتها في سوريا وتفتقدها في حياتك اليوميّة؟

سميح: جئت في الأساس إلى باريس منذ عشر سنوات، قبل انطلاق الثورة ببضعة أشهر؛ نتيجة التضييق الشديد الّذي مارسه النظام على أنشطتي الفنّيّة. لم أرغب يومًا في الاستقرار في الخارج؛ لأنّ بقائي في الداخل في صلب مشروع التغيير الّذي يستلزم البقاء قريبًا من الناس، ومتزوّدًا بكلّ آلامهم وآمالهم لأستطيع التعبير عنّي وعنهم؛ لذلك فإنّ اضطراري إلى البقاء في الخارج يؤلمني، وهو لم يكن يومًا خياري، لولا إغلاق الأفق في وجهي. أفتقد كلّ تفاصيل حياتي هناك، ومَنْ تبقّى من أصدقائي، عدا الأماكن الّتي أشتاق إليها كما أشتاق إلى الشخوص الّذين أحبّهم. من جانب آخر، يمكنني القول إنّي ربحت حرّيّة التعبير وتجربة الاغتراب، بكلّ ما فيها من تحدّيات جديدة، وكذلك الانفتاح على ثقافات مختلفة وموسيقات متعدّدة، أحتكّ فيها كلّ يوم.

 

فُسْحَة: كيف تنظر إذن، إلى شكل الإبداع داخل سوريا؟ كيف يستطيع الفنّ - بحقوله المختلفة - أن يكون موجودًا بتمام حقيقته في ظلّ الدكتاتوريّة؟ هل هذا يعني أنّ الفنّ الّذي يُنتجه السوريّون في الداخل، محكوم بالرقابة الذاتيّة والحرّيّة المنقوصة مسبقًا؟

سميح: بالطبع. إنّ غياب الحرّيّات سيُلقي بظلاله على كلّ الفنون، إضافة إلى أنّ الرقابة الذاتيّة، ورقابة الأجهزة المختصّة، تخفّضان من سقف الأفكار، وتمنعان البعض منها منعًا كلّيًّا؛ وفي هذا أذيّة كبيرة للفنّانين وللمجتمع ولمشروع التغيير أيضًا. لكن لا بدّ من أن نتذكّر أنّ التحايل على تلك الرقابة، لإيصال الأفكار المهمّة عبر أشكال الفنون، ينمّي الرمزيّة والإسقاط وتضمين الرسائل بشكل حاذق، ليستطيع النفاذ من مقصّ الرقيب، فيصبح هذا الأسلوب فنًّا في حدّ ذاته.

 

فُسْحَة: هل يمكن الأغنية - في رأيك - أن تقوم في حدّ ذاتها، بلا أن يصحبها هدف آخر كالتغيير والمقاومة والتأثير؟ ولِمَ يغنّي سميح شقير؟

سميح: بالتأكيد؛ لأنّ الأغنية قالب فنّيّ محبّب ومفتوح على التعاطي معه، بهدف التسلية أو الطرب أو المحتوى الفكريّ. وتأتي أهمّيّة الأغنية بين الفنون من قدرتها على أن تسيل على الألسن، ويمكنها أيضًا أن تؤثّر في الوجدان، ومن ثَمّ فهي قادرة على التأثير في نظرة الإنسان إلى الحياة، وذلك حسب محتواها وقوّة التأثير الّتي تحملها. أمّا سؤالك لمَنْ أغنّي، فسأكتب لك هنا كلمات أوّل أغنية قدّمتها على المسرح، وكانت بعنوان "لمَنْ أغنّي". وعلى الرغم من كلّ السنين الّتي مرّت، أجدني ما زلت في ضفّة الحالمين بالتغيير نحو الأجمل، وبين الّذين يعملون من أجل ذلك.

لمَنْ أغنّي؟

لمَنْ أغنّي في عصر الذرّة والنيترون

لمَنْ أغنّي في هذا الزمن المجنون

لمَنْ أغنّي؟

للأطفال المحروقين أغنّي

لركامٍ تحته بضع قلوب

للفقراء رماد حرائق هذا العالم

دون ذنوب

أنا لا أغنّي طربًا

أغنّي قبل أن أتمزّق قهرًا

وأغنّي هاربًا ومن التابوت

وأغنّي كي لا أموت

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.